قرآننا
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ الله وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13)} [سورة الصّف] الجزء الثاني.
- لقد تمّ تسليط الأضواء على ثلاثة عناصر أساسيّة في هذه التّجارة العظيمة والّتي لا مثيل لها.
(فالمشتري) هنا هو الله سبحانه، و(البائع) هم المؤمنون، و(البضاعة) هي الأنفس والأموال. ويأتي دور العنصر الرابع في هذه الصّفقة وهو الثّمن والعوض لهذه المعاملة العظيمة.
يقول تعالى: يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ
وتستعرض الآية مرحلة الجزاء الأخروي في البداية حيث غفران الذّنوب باعتبارها أهم عوامل القلق وعدم الرّاحة الفكريّة والنّفسية للإنسان، وعندما يتحقّق الغفران له فمن المسلّم أنّ الرّاحة والهدوء والاطمئنان تنشر ظلالها عليه.
ومن هنا نلاحظ أنّ أول هديّة يتحف الله سبحانه بها عباده الذين استشهدوا في سبيل طريق الحقّ وباعوا مهجهم في سبيل الدّين العظيم، هي مغفرة الذنوب جميعا
- ولكن هل أنّ المقصود من غفران الذّنوب الّذي ورد في الآية الكريمة هي الذّنوب الّتي تختص بحق الله فقط، أم تشمل ما يتعلق بحقوق النُاس أيضا؟ ويتبين لنا في هذا الشّأن أنّ الآية مطلقة والدّليل هو عموميتها، ونظرًا إلى أنّ الله سبحانه قد أوكل حقّ النُاس إليهم لذا تردّد البعض في القول بعمومية الآية الكريمة، وشكّكوا في شمولها الحقّين.
وبهذه الصّورة نلاحظ أنّ الآيات أعلاه قد تحدّثت عن مرتكزين أساسين من مرتكزات الإيمان وهما: (الإيمان بالله والرّسول) وعن مرتكزين أساسين أيضًا من مرتكزات الجهاد وهما: (الجهاد بالمال والنّفس) وكذلك عن مرتكزين من الجزاء الأخروي وهما: (غفران الذّنوب والدّخول في جنُة الخلد).
كما أنّنا نقرأ في الآية اللاحقة عن شعبتين من الهبات الإلهية الّتي تفضّل بها البارئ على عباده المؤمنين في هذه الدّنيا حيث يقول: وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ الله وَفَتْحٌ قَرِيبٌ
يا لها من تجارة مباركة مربحة حيث تشتمل على الفتح والنّصر والنّعمة والرّحمة، ولذلك عبّر عنها البارئ سبحانه بقوله: الفوز العظيم ونصر كبير.
ولهذا فإنُه سبحانه يبارك للمؤمنين تجارتهم العظيمة هذه، ويزف لهم البشرى بقوله تعالى: وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ
وجاء في الحديث أنّه في "ليلة العَقبة" - اللّيلة الّتي التقى بها رسول الله سرًا بأهل المدينة قرب مكّة وأخذ منهم البيعة - قال " عبد الله بن رواحة " لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): اشترط لربّك ونفسك ما شئت.
فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): "أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئًا، وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم.
قال: فما لنا إذا فعلنا ذلك؟
قال (صلى الله عليه وآله وسلم): (الجنة).
قال عبد الله: ربح البيع لا نقيل ولا نستقيل، أي لا نفسخ ولا نقبل الفسخ".
- أيّ فتح هو "الفتح القريب"!
من المعروف أن النّصر الموعود في هذه الآيات قد تحقّق مرات عدّة، ليس في الجوانب العقائدية والمنطقية فحسب. بل في الميادين الحربية أيضًا.
وقد ذكر المفسّرون احتمالات عديدة حول المقصود من (الفتح القريب)، فقال البعض: إنّ المراد من الفتح القريب في الآية هو (فتح مكة). وقال آخرون: إنّ المقصود بها هو (فتح بلاد إيران والرّوم). وقال البعض الآخر: إنُها تشمل جميع الفتوحات الإسلامية التي منّ الله بها على المسلمين بعد الإيمان بالإسلام والجهاد من أجله بفترة وجيزة.
ولأنّ المخاطب في هذه الآية لا ينحصر بصحابة رسول الله. بل يشمل جميع المؤمنين وعلى مدى التأريخ، لذا فإنُ جملة: نَصْرٌ مِنَ الله وَفَتْحٌ قَرِيبٌ لها معنى واسع، وتمثّل بشارة للمؤمنين جميعًا، بالرّغم من أنّ المصداق الواضح لهذه الآية كان في عصر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، وفي وقت نزول هذه الآيات إبّان فتح مكة.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - الشيخ ناصر مكارم الشيرازي - ج ١٨ - الصفحة ٣٠٦.