www.tasneem-lb.net

أخلاق

أخلاق - ها هو اليتيم بعين الله |62|

ثقافتنا
ها هو اليتيم بعين الله
|62|

 

ها هو محمد قد لبس الجاروق واستعد للانطلاق نحو حراء.
كـانـت عــادة المتعبدين مـن قـريـش أن يـخـرجـوا مـن مـكـة إلـى الشعاف ليخلوا إلـى أنفسهم في شهر رجـب بلياليه وأيـامـه. فكانوا يـتـحـصـنـون بـالـصـمـت، ويـعـتـزلـون الــنــاس، ويـقـطـعـون الـصـلـة بـهـم، فيمسكون عـن الـحـديـث يـتـحـرزون مـن الاخـتـلاط، فـصـار الصمت والخلوة من نسك قريش في الجاهلية.
سن أبناء هاشم السنة هـذه، وعمل بها البطون من بعد، بيد أن بني هاشم ظـلّـوا يعيرونها اهتماما أوسـع، وكـان أحرصهم عليها محمد بن عبد الله».
أجــل، كـان بـعـلـي، أبـو الـقـاسـم، شـديـد الـتـعـلـق بتلك العزلة والخلوة، إلا أنني وجدت القلق يعتمل في صدره، وهو يريد الخروج إلى حراء؛ فقد انتابه عامذاك غريب الأحداث: طالما ألمت بمحمد رؤى ملهمة، تحققت بعد، لكنه منذ طوى الأربعين، صارت أحلامه غريبة، لا يراها إلا وجاءت كفلق الصباح.
ترى هل هو حلمًا مـا يـراه محمد؟ كـلا، شتان مـا بين الحلم وما يراه تـرى، وشتان ما بين رؤياه وما يسترسل فيه الناس؛ إذ الغفلة عن ذكر الله لا تعتريه، سـواء فـي الغفوة أو الصحوة كما قـال هـو لـي ذات مرة: «تنام عيناي، وقلبي يقظان». 
أخــذ يـبـثـنـي ذات نـفـسـه ويـفـضـي إلـــي ويحدثني بما كـان عليه، فأخبرت ابـن عـمـي ورقـة بالموضوع (ورقـة عـابـد ًصالح، قـد ضـم إليه مـن علوم الـديـن جـم الكنوز) فقال لـي: إنـي أتـوسـم فيه الخير، وقـد سبق أن تحدثت يـا ابنة العم عمّا ظهر عليه في رحلة الشام من الدلائل والآيات، عسى الله أن يبعث بعلك نبيا؛ فالرسل تعد قلوبهم للبعثة، وتلقي الوحي بالأحلام، أو بما يوحى إليهم في المنام.
 ومنذ ذلـك الحين كـان  يتمثل بين يـدي بعلي - إذا أخلد إلی الـنـوم -رجـلٌ عظيم الهيبة، ليس لـه ولا لغيره عهد بـه. ثـم لـم تطل إلا فترة قصيرة حتى قـال: يا خديجة، أخذ الرجل يتمثل أمامي في الصحوة أيضا. سألته: متى، وأين؟ قـال: في كل آن ومكان، في البدو والحضر، في آنـاء الليل أو أطراف النهار .. أتذكر أن غمغمة كانت تصل إلى زوجي من بعيد أيام الشباب، لا يظهر عليها أحد غيره، وكان يرى -أحيانًا- ما لا نراه، لكن الغمغمة  تـلـك اشـتـدت فـي مـا مـضـى مـن الـشـهـور، فـأصـبـح إذا خـرج وحـده، تناهت إليه من الشجر والحجر عبارة التسليم هذه: السلام عليك، يا رسول الله! فيلتفت يمنة ويسرة، ويدير وجهه إلى الوراء، فلا يرى إلا الحجر والشجر.
 فلما مكث على هذه الحال، أخذ يأنف الطعام، ولا ينام من ليله إلا اللمام، فلاحت عليه بوادر الوهن والهزال. 
وإذا حان خروجه إلى حراء، بدا لي في عينيه الذعر، فزعمت أنه  توجس خيفة على نفسه، وخشي مما سمع ورأى، فرحت إليه،  وقـبـلـت بـيـن عـيـنـيـه، وقـلـت: بـأبـي أنـت وأمــي، لـِـمَ كـل هـذا القلق؛ فـإنـك والـسـلـف مــن قـومـك عـلـى عـافـيـة وقـــوة، وقــد عـشـت أنـت كـذب الـطـهـر والــصــدق والأمــانــة، لـم يـجـرب عـلـيـك أحــد كذبًا ولا خـيـانـة، عفيف الجسم والبصر، طاهر من الأدران والخبائث، تصل الرحم، وتكسب المعدوم، وتعطف على المسكين، وتعين المظلوم. كـلا.. كلا، لا يجعل الله للشيطان إلى نفسك سبيلا. 
ابتسم أبو القاسم في وجهي، ولم ينبس ببنت شفة، ثم زودته بجرة ماء، وكعك، وجراب زيت زيتون، ثم انطلق نحو حراء ..
يتبع..


تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد