www.tasneem-lb.net

أخلاق

أخلاق - ها هـو اليتيم بعين الله |55|

ثقافتنا
ها هـو اليتيم بعين الله
|55|

لم ير أبو القاسم المتحدث، لكن عرفه من لحن قوله الذي لا يخلو من الزهو والعجب، وكلماته الطاعنة اللاذعة. لا شك أنه عمرو بن هشام. كان عمرو هذا من شجعان قريش، وأولي السعة منهم، إلا أنه لئيم الـطـبـاع، خبيث الطينة؛ ومحمد كان لا يرغب في أمثاله أبدا؛ ويتجنب شره منذ رحلة الشام وزواجه من خديجة؛ إذ رأى أن الحسد يحتدم في صدره، ونار الحقد والحنق يضطرم فيه.
 أخـذ أبـو الـقـاسـم بيد ابـنـه بالتبني، وتـنـحـى عـن الـقـوم، فوقف عـلـى بـعـد، وألـقـى التحية عـلـى الـكـعـبـة، فــإذا بـه يسمع هـديـر جمل هـائـج، يتصاعد مـن الـسـوق الـمـوصـل إلـى بـاب بني هـاشـم. 
دب فـــي الــحــشــد الـــذعـــر والــروع، فــلاذوا بـــالفـــرار، وهــم يصطرخون، واستفحل الخطر فولى هشام دبره على الفور، وهرب، من المعركة بكل ما كان عليه من التباهي والغطرسة؛ فمن ذا الذي لا يعرف حال الجمل هذه، ولا يدري أن الوقوف في وجهه يساوي الخنوع للموت والانتحار. كان الجمل يمج بماء الفم في عيني القرن ليغافله، ثم يستعين بـطـواحـنـه الـرصـيـنـة، فيقطعه إربــًا إربــا.
عـزم أبـو الـقـاسـم أن ينتحي جـانـبا أســوة بـالآخـريـن، فـلا يعرض نفسه للخطر سدى، لكنه انصرف عمّا عزم، إذ سمع صرخة امرأة: فـي أرض المعركة، سقطت طفلة على خـطـوات مـن الجمل، وأمـهـا كـانـت مـبـهـوتـةً قـد أسـنـدت ظـهـرهـا إلـی الـجـدار، والـصـرخـات الـحـادة تنبعث منها، ودونـهـا، عـجـوز أحـدب لـف عينيه الـفـزع. كان يـجـد - بـلا جــدوى - ليسحب عــوده الـمـنـهـك مـن الـمـوضـع، وينجو بنفسه.
 وقـف زيـد جانبًا على منيف مـكـان، وجـهـر بعريض الصرخات في هلع: اهرب، أب اهرب!
وقـبـل أن تـخـتـم عـبـارتـه، رأى أبــاه بـالـتـبـنـي يـأخـذ الـسـبـيـل على الـجـمـل ويـتـمـسـك بخطامه الـمـرخـى، فيلتف عـلـى الـجـانـب الأيـسـر، ويعالجه بضربة قارعة، ثم يجر إليه ناصيته بشدة.
ردد الـجـمـل الــصــوت فــي حـنـجـرتـه، وهـــدر، كـــأن مـعـدتـه قـد جــشــأت، إذ انـتـفـخ جــوفــه هـــواء، ثــم دار نـصـف دورة فــي مـحـاولـة لاستخلاص رأسـه ، لكن القرن روضـه بحنكته وقوته، وهـدأ من ثورته ونـقـمـتـه الـعـمـيـاء، فـانـهـار - فانتهز أبـو الـقـاسـم الـفـرصـة ليثب عليه، ويأخذ بـعـنـانـه ويـطـوي عـلـيـه قبضته بـقـوة فـظـل رأســه مـلـويًا لا يـقـوى على الـتـمـاس حـركـة، فـلـم يـمـلـك أمــام محمد إلا التسليم والانقياد. وانتهت بذلك الطامة الكبرى وسرحت الصدور مـكـبـوت الأنـفـاس، وانـدفـعـت منها الـزفـرات. وهـرولـت الأم الشابة صـوب ابـنـتـهـا، فالتزمتها مـعـانـقـة، وتشبثت بـهـا فـي حضنها، وهـي منخرطة فـي العويل والـصـراخ، كأنها تخلصت مـن كـابـوس مرعب.
أمـا زيـد فقد انطلق نحو أبيه  بالتبني، ووقف بين يديه، والزهو يموج في صدره، فهمّ أن يعلن على رؤوس الأشهاد: «ألا إن هذا البطل الـذي لا يضاهى هو أبي،  أبي، أنا»، ثم انهال على محمد الصغار، محملقين، يتملون من بطل المدينة الجديد، نظرات الإعجاب والافتنان، أبو القاسم قد نهض بهذا العمل الجلل، أبو القاسم؟
كان لمكة من قبل بطلان: حمزة بن عبد المطلب، وعمرو بن هشام الذي ولى اليوم بالفرار من وجه جمل مغتاظ. أما حمزة هذا، فقد كان ضخم العود والباع، قوي العضد، رحب الصدر، واسعه، لا يظهر بين الناس إلا قليلا.
إلا أن الـبـطـل الـجـديـد هــذا مــن صـنـف آخــر: فــي عـيـنـيـه وهـج غـريـب، يـخـرق الأبـصـار ًخـرقـًا آســرًا لا بفضاضة صـاحـبـه. كــان يـمـنـح الـصـغـار كــل الـمـودة والــحــب، ويـتـلـقـاهـم بوجه مشرق، متفتح كالورد، ويغمرهم بشلال من حنانه الأبـوي.
يتبع..


تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد