www.tasneem-lb.net

أخلاق

أخلاق - ثقافتنا هـا هـو اليتيم بعين الله |57|

ثقافتنا
هـا هـو اليتيم بعين الله
|57|

أنىّ للكعبة من يبادر إلى هدمها! قالها عجوز بمزاح يشوبه هلع مـن الإقـــدام. 
أمــا الآخـــرون، فـقـد راحــوا يـتـحـسـسـون خـطـورة أمـر لم يتردد على بالهم من  قبل، لكنه الآن قد أخـذ بجماع تفكيرهم. لم لا؛ ألـم  يـحـق الـعـذاب عـلـى مـن كـان يقصد خـرابـهـا، والـنـيـل منها؟ 
كـان أبـو طـالـب عـلـى عـلـم بـمـا يـجـول فـي أذهــان الـقـوم؛ فجهر بعريض الصوت ليسمعه كل من حضر، وقال: رب الكعبة يشهد أننا لا نريد الهدم للهدم؛ فهو عالم بالنيات وبما نريد أن نقوم ببيته.
كــلام يـبـيـحـه الـعـقـل؛ إلا أنــه لا يــقــوى عـلـى اسـتـئـصـال قـديـم الهواجس، وجذورها في النفوس. أراد الوليد أن يقضي على أدنى شك مريب، فأضاف لما قاله أبو طالب: كان من الممكن ألا نعزم، لكننا عزمنا،  فلنأت عليه! 
قال عمرو بن هشام، طاعنا: إذن باشر، يا عم؛ إنك أكبرنا سنًّا ونحن نتربصك، فإن لم يصبك شيء من البلاء الفادح، تابعناك.
رد عليه الوليد بسخرية: ثكلتك أمك يا عمرو، لا يفيض منك ! إلا الشر.

رفـع الوليد من الأرض معولاً، واتجه صـوب الكعبة، ولـم يكد يخطو خطوات، حتى أنشد برأسه إلى الجدار، فدارت الرؤوس جميعًا إلى حـيـث ارتــدع: ثـمـة حـيـة كـبـيـرة تـطـوّقـت عـلـى جــدار الـكـعـبـة، لا تكاد، تـبـصـرهـا الـعـيـون لـلـوهـلـة الأولـــی لـصـفـرتـهـا. اشــرأبــت لـلـولـيـد بـرأس مذنب وفم فاغر عريض، وأسنان معوجة كالإبر؛ فألقت الرعب في القلوب. لسانها القاني أبرق كالصاعقة، ثم غاب بشقيه، فلم يترك في الفضاء إلا عابر اللمعان. وقف الجميع أمام عينيها المرعبة، مشدوهين، لا حول لهم ولا قوة. ترى، أليست هي الحية التي ظن القدامى أنها تحرس الخزانة؟ 
 لما سُقِط في أيديهم، والتبس عليهم أمرهم، قال قائل منهم:  يبدو أن الآلهة لا ترضى بما نريد أن نصنعه من الهدم. لاذ الـحـشـد بـصـمـت الـتـأيـيـد، إلا إن أبــا الـقـاسـم وأبــا طـالـب والمغيرة كانوا على رأي آخر؛ فلا يعقل أن يرضى الله بخراب بيته، ويصرف الناس عن البناء، فانطلق أبو طالب ومن ورائـه نفر صوب مـقـام إبـراهـيـم الــذي كـان على بعد خـطـوات؛ لـيـجـأروا جميعًا، وأبـو القاسم معهم إلى الله، يسألونه الفرج والمخرج. 
خلع أبو طالب نعليه، واقترب من الموضع، وجثم على ساحة الحرم الصخرية، ثم اتخذ الاشياخ مجلسهم إثره بين الرمال، واستقر من بعدهم الفتيان. حــل أبــو طـالـب لفّة مـن عـمـامـتـه الـخـضـراء، وأرخـــى بـهـا على النحر، ثم مال بهامته وحناها، كأنه عبد مسكين، مستكين، ورفع إلى الكعبة يد الضراعة والدعاء. كـنـت إذ ذاك مــع والـــدي بـالـتـبـنـي، وهــو يـدعـو بـيـن لفيف الناس بطريقة فريدة، فإذا بطائر ضخم يبرز من حيث لا يعلم، فيخر ككسف الصخر؛ مما تبادر إلى الأذهان أنه قتل غيلة، ّإلا أنه سرعان مـا حـلـق فـي الـسـمـاء، وقـد تشبث بـقـوي مـخـالـبـه، شـيء مهتز كأنه سوط سميك.
يــبــدو أن الــطــائــر كـــان عــقــابًا فــانــقــض عـلـى الــحــيــة الـصـفـراء ليختطفها ويذهب بها سحيقا.
 في لحظات، فلم يتأت للناس سبر الأغـوار، بيد أن قريشًا ضجت بالرضا والغبطة ودوت منها أصوات التكبير.
 انتزع الناس عودهم من الأرض في ثناء وبهجة، وراحـوا شطر الكعبة بصدور زال عنها الريب ..
 لما بلغوا الكعبة،تقدم الوليد دون القوم، ليباشر هو الهدم فـي الـمـرة هـذه أيـضـًا، مـع كـل مـا لاح لهم مـن بــوادر صحة مـا عزموا عليه.
 - هاتوا المعول! 
ارتقى الزبير السلم،  وسلمه معولًا، مريح الاستعمال.
 ارتد الوليد عند الجدار برهة، فاحتبست الأنفاس في الصدور وران على الجميع الصمت والسكوت. اللهم لم ترع اللهم أنّا لا نريد إلا الخير! 
– ها هو لم يمسسه سـوء ولا ضـرر، فلا صاعقة انقضت عليه، ولا حولته إلى رماد، ولا عوده يبس أو شلّ!
حط الوليد العتلة على الأرض، ونزع منديله من الجدار وغطى بــه هـامـتـه، فــوطــیء الـسـلـم، وهـبـط فــي هــدوء وهـــوادة، ثــم ارتــدى العباءة، والتفت إلى كبار قريش، قائلا: تعالوا، امضوا في العمل، لا تخافوا، ألا ترون أنني لم أصب بمكروه! 
 قــال عـمـرو بـن هـشـام: هــا، قـد حــان الــغــروب، والـلـيـل  يـتـقـدم بظلامه، أرى أن نؤجل العمل إلى الغد. لـم يعترض على رأيــه أحــد مـن الأشــراف؛ فـالـهـواجـس لـم تسر عنهم بـعـد فكانوا يـشـاطـرون َعـمـرا الــرأي، ويـؤيـدون مـا كـان يذهب ، إليه، ويـرددون في الأعماق قوله: ننظر، فإن لم يصبه شيء، فربما نغدو إلى الهدم..
يتبع..


تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد