www.tasneem-lb.net

أخلاق

أخلاق - ها هو اليتيم بعين الله |41|

ها هو اليتيم بعين الله
|41|

 

قـال أبـو طالب برزانته المعهودة وذاك الطبع الرفيع: لا زلت  محمدي الصغير على أنـك غـض الـشـبـاب، وقـد فـاق عقلك عقل المحنكين. الأوان قد آن لتعد أنـت العدة لـلـزواج؛ 
خجل محمد من كلام أبي طالب، فأغضى الجفون وتضاعفت وجنتاه حمرة، فقال: مهلاً يا عماه، كي أنظر في الأمر!
فكر يا ولدي. وإذا عزمت، فتهيأ للسفر، سأعهد اليوم الرعي - إلى  طالب.
قال محمد: شكرًا لك، يا عم.
 ودّع محمد أبـا طالب، وخـرج من الـدار، فالأمر خطير وبحاجة إلـى الـتـأمـل وإجـالـة الـذهـن. انطلق - كالمعتاد - صـوب جبل النور وغـار حـراء، حيث كـان ينشطر عن الناس إذا رغـب في الخلوة إلى نفسه..
تـوقـف لـدى سفح (الـنـور) ريثما يستريح عند صـفـوان قـابـع على قارعة الطريق؛ تــرك وراءه ثـبـيـر ذاك الجبل الهرمي الشكل الناهد أمام النور، أنيس غربته؛ ووحشته. 
كانت أحجار الجبل وصخوره تلتهب في لظى بدايات الصيف، والـعـرق ينتفض كـسـواق صـغـيـرة مـن شقيقة مـحـمـد الـطـرية، وعلى ذلك كان جو المكان ألطف من مكة الغائرة في قعر واد علته الجبال المحيطة
 نــزع مـحـمـد الـعـقـال والـكـوفـيـة، ثم ولّى الوجه نحو سهول مكة الشمالية، حيث يمتد طريق، يثرب في الصحراء كنهر هزيل، جف ماؤه، فتنقطع به الأسباب عند تراكم جبال قاتمة. 
يا لطبيعة الخالق المتنوعة! 
الـتـقـط مـحـمـد صـبـيـب الـعـرق مـن الـجـبـيـن، وقــام ليلقي نظرة الوداع الأخيرة على مستودع أسرار غربته، 
وفجأة تلاطمت الهموم بصدر محمد، وعصر الألـم فـؤاده، إذ راودتــه ذكــرى عـبـد الـمـطـلـب؛ فـهـو كـذلـك، كـان يختلف وحــده إلـى الجبل هذا، ويخلو إلى ذاته، بعض يومه، ويبيت ليالي رمضان في حـراء، فيحمل إليه غلامه العجوز، عـامـر، الـمـاء والـطـعـام، مصطحبًا معه محمدًا الصغير في بعض المرات ليعاود جده اللقاء.
وطـأ محمد القمة: فسحة مستوية بعض الاسـتـواء في أربعين ذراعـًـا، تلف أقطارها سماء زرقـاء، صافية كل الصفاء، وفيها تهب أنـسـام رقيقة بـرخـاء، فينتعش عـود محمد الملتهب ويـسـتـريح روْح الجنان. لا زالت دور مكة في بطن البلدة تبدو مشرئبة، متحلقة حول الـحـرم، وفـي أعاليها زبـى لا يعلوها السيل، اتخذ منها أولـو الطول، بمختلف بطونهم سكنًا؛ فسميت البطحاء. 
دور مشيدة مرموقة، فخمة، معظمها ذو طابقين يزهو بينها دار خديحة الشامخ بطابقيه، وبما ضرب عليه من قبة حريرية خضراء.
ما ينفك الـنـاس يـبـدون الإعـجـاب بـهـا، وبـعـضـهـم - عـلـى عـادة العرب - يلقي الثناء عليها بالإغراق. «امــــرأة ذات صـبـاحـة وجـــه، وبــراعــة جــمــال، مــع أنــهــا بـلـغـت الأربعين، وزفت إلى اثنين، ثم أنجبت لهما ثلاثة. وعلى ذلك، كان عـلـيـة الـعـرب وســراة قـريـش مـثـل أبــي لـهـب وعـمـرو بـن هـشـام [أبـي جهل] لا يكفون عن خطبتها. 
لقد سمع محمد - بنفسه - أن فتيان مكة ممن يصغرونها سنًا يتنافسون على طلب يـدهـا، تغريهم بها وفـرة الـمـال، أو غير ذلك من الأسـبـاب إلا أن خديجة كانت ترفضهم جميعًا وتـرد أيديهم في أفواههم. 
أخلد محمد إلى الأرض، ثم ولى الوجه إزاء مكة.
يتبع..


تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد