www.tasneem-lb.net

أخلاق

أخلاق - ها هو اليتيم بعين الله |28|

ثقافتنا
ها هو اليتيم بعين الله
|28|

ما أن التقى عبد المطلب بحفيده حتى أعرض عن الحوار مع السراة، لينقطع إلى محمد بالحديث: 
أين كنت منذ الفجر يا بني؟
شغلنا البناء أنا وعمي حمزة وبعض الصبية.
بناء! أين؟ لمن؟
بكوخ عذيب بن مهدل
ذاك الأعمى المسكين
حياك الله يا ولدي أحسنتم.
- يا بني لا تخل بنفسك في الدار، فيكسف منك البال، أخرج مثل عمك مع الغلمان إلى الزقاق!
تأمل محمد في جده بحزن وأسى، وقال: لا يقر مني البال إلا إذا انقطعت إليك في الدار
أمسك عبد المطلب عن الكلام، وانطبعت على شفتيه بسمة الثناء إلا أنه سرعان ما خبا شهابها الخاطف، بعد أن أومض سحنته المرهقة التي نالت منها الشيخوخة؛ فانطوى على ما كان ينتابه من الأوصاب والأوجاع. 
دخـلـت هـالـة الـغـرفـة، وعـدلـت متكأ عـبـد الـمـطـلـب، ثـم ثنت تـحـت سـاعـدي زوجـهـا وســادتــه الـتـي اسـتـنـد إلـيـهـا، وقــالــت: آتـيـك بمغلي الأعشاب؟
رنـا إليها وقـال: لا جـدوى من الـعـلاج؛ فالسيل قد بلغ الزبى، الـبـلـيـة هـذه الـمـرة مـن صـنـف آخــر. هـي الـشـيـخـوخـة، ولا ينجع فيها إلا..
ما إن أراد أن يتفوه ب (الموت)، حتى أهابت به هالة أن محمدًا في الحجرة. 
 لقد كـان عبد المطلب يعرف كم من الـمـودة يكنّ له حفيده؛ فمنذ آب من يثرب يتيمًا لم يجد من دونه موئلًا يعتصم به. فكان يتيم به إليه ويدنيه. ولــم يـصـبـر بـُعـد عــن الآخـــر يومًا فضاق كل بالفراق ذرعا. كــان لا يـأكـل إلا بـحـضـور محمد، فإذا حضر، قدم  لجده الطعام، وسقاه الشراب. لكن يبدو أن الأيام كانت حبلى بـالـمـفـاجـآت وصــار الـقـدر لـه بـالـمـرصـاد، وحـاسـتـه الـسـادسـة راحـت تنذره بموت معجّل في قادم الأيام.
كـلا، لا يهاب عبد المطلب ِ الـحـمـام؛ فقد عـاش مليًا موفور النعمة، ولا يشوبه من الموت قلق ولا اضطراب؛ فالموت ليس هو الفناء كما يزعم بعض العربان. لم يأخذه بعمله الصالح الغرور، بل داخلته الطمأنينة، وغمرته السكينة؛ لأنه عايش العفة والطهر والنقاء. إلا أن همًا مقلقًا أخذ يداهمه: «ترى، ما مصير محمد من بعدي...؟ أيطيق نائبة من جديد، هذا اليتيم الرقيق، الدرة العصماء؟». لا مناص مـن الـقـضـاء، ولا اعـتـراض على الـقـدر. هـذا مـا  تبناه عـبـد الـمـطـلـب فـي الـسـر والـعـلـن. 
تـرى هـل يدرك قلبه ذلك.
آه، يا حفيدي الصغير، يا لحزنك المتواصل السحيق، سلاك الله عـنـها! ليت شـعـري، لـم لا تـطـول بـك صحبة مـن تمنحه الحب، فتحرم منه إلى الأبد.
تـمـالـك عـبـد الـمـطـلـب نـفـسـه، فـكـاتـم دمـعـة طـفـرت مـن عينيه عـلـى حـيـن غفلة مـن مـحـمـد، فكفكفها بـإبـهـامـه، ثـم وقـع مـنـه البصر عـلـى مـحـمـد، مـقـرفـصًـا لــدى الــبــاب، قــد ألـصـق الـفـخـذيـن بـبـطـنـه، مـسـنـدًا الـذقـن على الركبتين، وهـو ينعم إلـيـه النظر بعين عسلية، مشدوهة، طافحة بالغم.
 يتبع..


تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد