www.tasneem-lb.net

أخلاق

أخلاق - ها هو اليتيم بعين الله |24|

ثقافتنا
ها هو اليتيم بعين الله
|24|

 

لاح للبصر مـن البعيد، نخيل وأكــواخ مـن طين، فأعلن رئيس القفل أن ها هي الأهواء حيث المبيت.

ليلة ثقيلة لـيـلاء.. لحظاتها طالت كأنها سـاعـات، والشمس بدت غـارقـة فـي جـب الـمـشـارق، لا تـزايـلـه؛ بـل تستعصي على الـشـروق، وتصر عـلـى الـبـقـاء. وهــا هــي آمـنـة تـنـوبـهـا الـحـمـى نــوبــة بـعـد نـوبـة، فيلتهب عودها كالكور المضطرم، ثم يتصبب من مساماتها العرق مثل سـواق صغيرة منهمرة. 
اضـطـرت أن تـلازم الفراش منهكة، خشية أن يستيقظ محمد وبركة، فأخذت تعضعض على الشفتين، وتنشج في صمت أبكم. تعتريها  أحـيـانًـا الـرجـفـة، فيشملها عــرق بــارد، ثـم تلح عليها رخـوة غريبة وتقهرها، ويأخذها دوار الـرأس وتقاذف المعدة كل مأخذ. 
فـي خضم مـن الحمى والـرجـفـة والـقـيء والــدوار، تخف على آمنة الأوجاع - ولو لفترة يسيرة - فتنال بعض الراحة، فيراودها بها التفكير في عجز الإنسان، وتفاهة الحياة.
هــا هــي آمــنــة تـتـمـنـى الــمــوت، بـعـد أن قــاســت الـحـمـى حتى الفجر، على مـدى ليال ثـلاث طالما داهمها الخوف على مصير محمد ومستقبله، وعلقت فـي ذهنها أسئلة واخــزة: مـاذا سيحل بـه مـن بـعـدي، أيـن ينتهي به الـدهـر الـقـاسـي وفـتـنـه؟ وهــل يـطـيـق يـتـيـم فـي الـسـادسـة هــذا اليتم المضاعف؟ 
تذكرت فجأة ما رأتـه إبان ولادة محمد من الرؤيا الغريبة وما  لقي من الرعاية الخفية الغيبية، فأخذت تتمتم: «أعيذه بالواحد من شـر كل حـاسـد».
 انـبـثـق الـفـلـق، وتـسـلـلـت أشـعـة الـصـبـاح الـشـاحـبـة إلــى فـرجـة الباب إلـى نفس آمنة سكينة غامضة، فصارت كمن يبصر الكائنات وشؤونهم من فوق العرش. 
مــع إطــلالــة الــنــهــار، خـفـت الـحـمـى والأوجــــاع، وشــعــرت آمـنـة بالتحسن، فاستندت إلى الوسادة جاثية، وظلت على تلك الحال. 
هـا هـي قـريـة الأبــواء الضئيلة اسـتـفـاقـت هـي أيـضـًا مـن طيب المنام، فتعالى صوت الحياة من أكواخها المدرية، وأزقتها الضيقة الملتوية، 
سمعت آمنة من الزقاق المتاخم للكوخ جلبة سرب من العنز والـجـداء، ثم حطت فـي الـبـاحـة بضعة عصافير وراحــت تـزقـزق عـالـيًا- كأنها تبح عن بلغة من الطعام 
فأثارت بركة بصداحها من المنام، واثبة مرتبكة، تدير بعينيها حول الفراش فوقع البصر منها على مولاتها؛ فخالجها بغتة مزيج من الشعور بالفرح والحياء. 
-عذرًا - يا سيدتي عذرًا – فقد صرفني النوم عنك والإرهاق!
 مـهـلا، يـا بـركـة  مـهـلا، فـإنـك فـي الآونــة الأخـيـرة، تكلفت من التعب والعناء. لا عليك. هنيئا لك النوم والراحة في سبيلنا أنا وابني يا أنيس آمنة في أعوامها العجاف، يا صبور، يا شريكة أحزان يتيم عبد الله. 
طاب يومك يا مولاتي، يا للسعادة! يبدو أنك أحسن حالا! 
-  وطاب يومك، أيضًا، يا بركة، نعم، أنا الآن أحسن ولكن.. ما إن وقع بصرها على محمد وهو يستيقظ من المنام، حتى أمسكت عن الكلام.
. - أنعمت صباحًا يا ولدي، أمسيت مرتاحًا؟ 
رد محمد بابتسامة عذبة، ثم حملق في سحنتها . قرأت آمنة نظرة ابنها، فطمأنته بقولها: «لا تهن يـا شريك أحـزانـي الصغير، ولا تـحـزن؛ فراعيك معك وإن  غبتُ عنك»
  بـعـد أن تـنـاولـنـا أنـا ومـحـمـد الـفـطـور، تـشـبثت مولاتي بمحمد تعانقه تقبله، وقـد أسـالـت مـن عينيها الـدمـوع. حط محمد رأسه على صدرها، وهو يسحّ العبرات سحًا غزيرًا فضقت بالمشهد ذرعـًا، فأجهشت بالنحيب والبكاء. أرسلت آمنة محمدًا إلى الفناء في حاجة ما، ثم أهابت بي أن أدنو منها. 
أخـــذت يــدي إلــى يـديـهـا الـمـلـتـهـبـتـيـن، وطـبـعـت عـلـى وجـهـي قبلةً، فانخرطت في العويل، وقبّلت منها اليدين الناعمتين كالورد. ثـم بـصـوت طيب أوصتني بمحمد، أن أسلمه إلـى جـده وأن لا أخلي بينه وبين الوحدة ما وجدت إلى ذلك سبيلا.
 قـالـت لـي مـولاتـي: يـا بـركـة، إنـك تعلمين حـقًـا أن مـحـمـدًا في ربيعه السادس، ولم يذق حنان الأم إلّا  قليلا - لا أخ له، ولا أخـت، وليس لـه مـن بعدي مسل عن الوحدة، إنه يأنس بك أنسًا خاصًا، عسى أن  يسلي ذلك همّه، ويريح شجوه.
تدهورت حال مولاتي خلال اليومين بشدة، فأخذ منا الخوف أنـا ومحمد كـل مـأخـذ فجرعتها مـا كـان بين أيدينا، مما أعـرفـه، من الأعــشــاب، فـلـم يـنـجـع فـيـهـا ثـم  تـوسـلـنـا إلــى شـيـوخ الـقـر يـة وتشبثنا بهم. فجرعتها - بـلا طـائـل - مـا وصـفـوه لنا مـن الــدواء. ولـمـا ألقت علي مولاتي كلامها ذاك، توجست منه خيفة، فانطلقت إلى شيخ علي مكين، ناحبة، أسأله العلاج، فأوصاني بالذهاب إلى كاهنة حكيمة في ربوة بعيدة عن الأبواء، عجوز جاءتها من مكة، ونصحني أن أخف بها إلى مولاتي؛ علّ في ذلك الشفاء.
طـلـبـت مــن مـحـمـد ألا يـتـرك الـــدار، وولــيــت وجـهـي أنــا نحو الكاهنة، ولما بلغت بيتها، أعلمتني أمتها أن قد مضت إلى معبدها في جبل الأبواء، ولن تعود إلا بعد ليال ثلاث.
 رجـعـت إلــى الـقـر يـة  مـتـصـدعـة مـن الـغـم والأســـى، فسمعت، وأنا بباب الغرفة، عويل محمد ونحيبه الجهير، هرولت إليه ساعية، فرأيته متضرعًا،  واضعًا خـده على خدها، وهـو يندب بحرقة: أمـاه، ؟ ماذا دهاك؟ لم لا  تردين علي؟ انهضي لنعود إلى مكة!  أماه، من لي غيرك؟ كوني عونًا لي على الوحدة!
اصطرخت مـن الأعـمـاق، وأسـرعـت إليها. كـانـت قـد أسدلت الأهداب، وتمثلت لي بوجهها الهزيل، كفلقة القمر المشرق، ملاكا  قد غط في سبات عميق.
أدنيت الأذن من صدرها، في ذعر ووجل: قلبها لم يعد يخفق. هممت أن أدك براحتي على هامتي، وأنثر الشعر وأشـق الجيب، فانصرفت؛ إذ وقـع بصري على سحنة محمد المرعوبة المهمومة، فخفت أن تزهق من عوده الضئيل الـروح، ثم أهبت بنفسي  زاجرة: صبرًا يا بركة، فها أنت والبقية الباقية من سيديك.. أدركي محمدا!
يتبع..


تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد